يوم عرفة
منذ شهور قليلة
..وفي ذلك اليوم.. كانت الشمس وقت الغروب وكنت
عائدا من العمل لم أجهز شيئا قط للسفر.. لم أشتري ذلك الكتاب الذي وعدت أبي بشراؤه
...ولا أي هدايا رمزية لبنات أختي ... كانت حالتي النفسية في حيرة شديده يومها .. بين صيام يوم عرفة وحيدا بالقاهره او مع أنستهم
وبين ايديهم ... وللاسف دائما ما يحذرني الجميع بعدم السفر ليلا ..
إذن ما العمل ؟
.. إن كل الظروف تجبرني على الحيرة و ليلة عرفة شارفت على البدء !! ...
يومها وجدتني
لا اراديا أطمئن على إطارات وزيوت السياره وكأنني إتخذت قراري ...... فانا من
هؤلاء مزدوجي الشخصية الذين يعشقون العلم وحساباته وفي نفس الوقت ينازعني قلبي في
الزهد والتخللي ..
عندما سلكت
بداية الطريق الصحراوي الشرقي .. لم أشعر
نهائيا إنني خارج العاصمة .. فتقريبا أغلب سكانها مسافرون معي على نفس الوجهة
.... ياللروعه !! ... فلن أشعر بوحدة الطريق ولا الصحاري والجبال الصارخه .. مجبرا على التمسك بعجلة القيادة والا اغفو عنها
لحظة واحده لاكثر من ثلاث ساعات...
كنت مستمتعا بأغنية
منير (حارة السقايين) بصوت مرتفع جدا ... ومكررا معه الكلمات .. حتي اوشك على سماع نشاز
صوتي ... فيزيد الدوبامين ... داخل دمي ... يالها من سعادة عارمة !! .. وكأنني ذاهب
لتحرير القسطنطينية !!! ..
وإذ فجأة تبطيء
جميع السيارات أمامي بسرعه خاطفه .. اسمع من خلف الزجاج أصوات صارخه مرعبه لصوت
إطارات السيارات تتشبث بالأرض وكأنها تحفرها رافضة بكل السبل مفارقة الطريق او
مفارقة الحياة ... اختفي الدوبامين بسرعه البرق ... و أطلق القلب جرعه مهولة من
الادرينالين ...لم أشعر وقتها بموسيقي منير الا بعد ماتوقفت السيارة كليا ... الحمد لله ...
خفضت صوت المذياع .. ونطقت الشهادتين ... ويداي
و قدماي لا تتوقفان عن الارتجاف ....
يالغباء
الانسان وتفاهته ... يظن بين لحظة وضحاها أنه يملك الأرض .. وأنه سيعيش أبد الدهر
... ناسيا ومتناسيا حقيقة أنه صفحة من صفحات الزمن !!!!! ...
تحركت السيارات
ببطء شديد لمده عشر دقائق، فظننت أن شيء لم يحدث .. ولكن بعد أقل من مائة متر وانا على وشك الخروج من عنق زجاجة الزحام رأيت بطرف
عيني سيارة ميكروباص بيضاء وبجوارها اثنتين ملاكي بحادثة مهولة بالاضافه لاكثر من خمس
سيارات اخري بصدمات بسيطه.. عند الوهلة الاولي تعلم أنه لم يخرج أحدا حيا أبدا
....لاقدر يالله !!
الكثير من
السيارات أكملت طريقها بعد نزول العديد للمساعدة وطلب الإسعاف .... تمالكت أعصابي وركنت
على جانب الطريق بعيدا .. ونزلت لاساعد على قدر استطاعتي... و الأدرينالين مازال
متحكما في حركتي .... ِ
اسمع من بعيد
صراخ تلك السيدة وهي تقول ( ليه ياربي الاتنين ليه !!!) ... صوتها يهز القلوب ..
اقتربت لأجد سيدة خمسينية تلبس العباءة السوداء و غطاء رأسها ضاع منها و الدماء
تمليء وجهها تاركة ممرين فقط لدموعها المنهمرة .. تجلس بين شخصين علمت أنه زوجها
وأبنها.. توفاهم الله ... (رحمهم وعفا عنهم وغفر لهم) ...
ترفض اقتراب
أحد .. وتصرخ من داخل قلبها بحرقة شديدة وكأنها
تريد قطع أحبالها الصوتية .. لا لم يكن ذلك الصراخ الهزلى التمثيلي الذي نراه
حولنا في المآتم والجنازات ... ولكنها حرقة شديدة خارجة من قلبها وكل كيانها وكأن
الكون كله ضاق بها ... لدرجة أجبرت عشرات الرجال ليبقو صامتين والدموع تنهمر من
الجميع ورهبة الموت ترفرف ف المكان .. وكأن ملك الموت لم يغادر حتي الآن .... انها
تبكي على زوجها صاحب الستون عاما وابنها صاحب الثلاثين على ماعتقد .. وكأنها كل
صرخة تساوي مايقارب المائة عام من ذ كرياتها و وجدانها في لحظة واحده ... إنه ذلك
الشعور المرعب بفقد الحياة وانت على قيدها..
جاءت سيارات
الإسعاف أعانهم الله .. وكأنهم مستؤنسون تلك اللحظة الاف المرات من قبل.. بكل قوة
رفعو الشخصين بعد تأكدهم من وفاتهم ومن
سلامتها وهي تتمتم بكلمات غير مفهومه .... وضعو بجوارهم اثنين اخرين مازالو يصارعو
الموت ..
تحركت سيارات الإسعاف
بهم جميعا ... والحالات البسيطه تم توزيعهم على سيارات أخري .. وبدأ الطريق يمر
... ولازلت انا وثلاث اشخاص متجمدين
مكاننا من هول الموقف ...
تلك السيدة العظيمة
كانت عائدة بنفس حماسي تقريبا الى بلدتها مع زوجها وابنها وبداخل كيانها مائة عام
من الحب والرعاية والاهتمام والذكريات ... وبدون اى سابق انذار فقدتهم جميعا ... ياله من شعور مفجع .. شعور
فقدان الفجأة ..
رحمهم الله
جميعا .. وغفر لنا ولهم ...
كيف لكي يا أمي
أن تعيشي بكل هذا الألم ... والكثير يبكي و يعوي ويملء الدنيا صراخا وعويلا على
فقد شخصا احببه لشهور او أعوام ولم يشعر بقربه من الأساس ...